الأربعاء، أغسطس ٣٠، ٢٠٠٦

القــــــــارب

لم تكن المدينة جميلة بالمرة ، بل مليئة بالمساويء عديمة المزايا،لا يدخلها ولا يمشي فيها أحد إلا ويمتلأ قلبه غما وتمتلأ حياته بالمتاعب ، حتى في الموت، كثيرا ما كان يموت أهلها بطريقة غريبة ومرعبة ، ومع ذلك ترى أهلها متمسكين بها غير راغبين في الرحيل عنها إلا طائفة قليلة كانوا يتمنون أن يرحلوا عنها لمكان أفضل ولكن لم يستطيعوا إلى ذلك سبيلا ،فهي جزيرة قبل أن تكون مدينة ومما يزيد العجب أن تجد جزيرة لا يتقن أهلها صناعة السفن أو حتى القوارب الصغيرة، ولا يربطهم بالجزر المحيطة إلا علاقات تجارية محدودة جدا تتم عندما تأتي سفن الجيران تبيع وتشتري من على الشاطئ وترحل سريعا ولم تكن هذه الجزر تشجع على الرحيل إليها فحالها لا يختلف كثيرا،عدا جزيرة واحدة تعيش في هدوء وسعادة وهناء ولكن قليلا ما كان يرى لأهلها سفن، فلقلة حاجتهم لغيرهم لم يحتاجوا إلا لاستخدام قوارب صغيرة تكفي لأفراد معدودين ولكنهم احترفوا صناعتها أيما احتراف.
كانت أيام المدينة كلها متشابهة شديدة الرتابة ولكن هذا اليوم كان مختلفا، إذ بدأت الأخبار تتوالى عن سلسلة أعاصير قوية تجتاح الجزر القريبة ، أعاصير ذات طابع خاص لا تترك إنسانا ولا نباتا ولا حيوانا على قيد الحياة ، أعاصير مظلمة مهلكة سريعة مفنية
وبإرسال المستطلعين والعلماء تبين أن الأمر حقيقي وأن الجزيرة في مسار الأعاصير لا محالة، وأنها ستلقى نفس المصير المر ،ستلقى الهلاك والدمار، فأيقن أهل المدينة بالبوار ولم يجدوا في أيديهم حيلة فهم لا يستطيعون مغادرة المدينة فرصيدهم من السفن والقوارب صفر وبالطبع لا يستطيعون إيقاف الإعصار القادم قريبا .
وأخذت الأيام تمر أسرع مما تعودوا ،والطقس يسوء يوما بعد يوم ، وأوقات الظلام على مدار اليوم تطول ، والقلوب تكاد أن تخرج من الصدور ، وفي وسط هذا الغم والبؤس الشديد وصل قارب صغير به بضعة رجال وبعض المعدات البسيطة ، كانوا وفدا من تلك الجزيرة البعيدة الهانئة والوحيدة التي تقع بفضل الله بعيدا عن مركز الإعصار فلم يصبها إلا طرفا منه لم يلحق بها إلا أضرار طفيفة، لم يتحمل أهلها الناجون أن يتركوا سكان هذه الجزيرة يهلكوا دون أن يحاولوا على الأقل المساعدة ، فأرسلوا وفدا به أمهر مصممي القوارب ليعلموهم صناعة القوارب الصغيرة ومعهم بحارة ليدلوهم في البحر حتى يصلوا إلى الجزيرة الهانئة وتتحقق نجاتهم من الهلاك.
انتشر الخبر في المدينة وتجمع الناس حولهم ، فأخبرهم الوفد أن أقصى ما في وسعهم أن يعلموا ويرشدوا كل من يريد أن يصنع قاربا له ولأهله ليذهب معهم إلى جزيرتهم الآمنة على أن يقوم الراغب بتجميع الأخشاب وقطعها وتجهيزها كما سيعلمونه ،كما أنهم سيوجهونهم في البحر حتى لا يضيعوا في الطريق، فالوقت والجهد لا يسعفهم لأن يصنعوا بأيديهم وحدهم قوارب تكفي كل المهددين قبل وصول الإعصار.
وتفرق الناس،، فمجموعة منهم رفضت العرض واتهموا الوفد بأنه يريد أن يتخذهم عمالا ثم يأخذوهم في قريتهم لإذلالهم، بل ووصل الأمر لاتهامهم بافتعال أخبار الإعصار وأن الأمر كله خدعة، وآوى هؤلاء إلى بيوتهم وأعمالهم ونواديهم وقرروا أنهم لن يغادروا المدينة أبدا
ومجموعة قليلة اعتبرت العرض مجزيا وكريما ومنقذا وقبل كل ذلك عادلا ، وبدأت إعداد العدة والعمل على الفور رغم ما وضعته المجموعة العنيدة من عوائق في طريقهم من حرق أخشابهم وسرقة معداتهم بل والاشتباك معهم أحيانا بعد ما يأسوا من إقناعهم بالمكوث في المدينة وعدم طاعة الوفد.
وخلال أيام قليلة رحلت مجموعة من القوارب بالفعل وكل حسب جديته وجده.
أما العجيب أن قوما جلسوا على الشاطئ لم يذهبوا إلى بيوتهم وأعمالهم وفي نفس الوقت لم يصنعوا قواربا،، جلسوا يتفرجون منشغلين ببعض الألعاب والكتب التافهة ، يا له من أمر محير ملفت للنظر، سألهم الوفد
-ألن تأتوا معنا؟
-- بلى سنأتي، نحن حقا نريد النجاة،ومن لا يريد النجاة؟!
- إذن لماذا لم تصنعوا القوارب؟
-- هذا أمر صعب وأنتم تشرحون لنا وتدلونا فقط ونحن علينا الجهد والصناعة ،ليتكم أحضرتم معكم قواربا جاهزة
-إن هذا ليس بأيدينا وكل ما نملك الآن أن نعلمكم وندلكم وانتم تصنعون وقد نجح إخوانكم في هذا وقد رأيتموهم بأعينكم وهم يبحرون فهيا افعلوا مثلهم
--لكننا لا نتحمل المشاكل التي تتعرضون لها ممن قرروا المكوث في المدينة
-سبحان الله وهل هذه المشاكل والمتاعب تساوي شيئا في مقابل النجاة من الهلاك
--أكيد سننجو دون كل ذلك
-كيف؟
--لا ندري ،ربما نجد أماكن شاغرة في القوارب وننجو دون تعب الصناعة ودون تعب المشاكل مع الأهل هنا ، وربما لا يأتي الإعصار،،أو يأتي الإعصار وننجو.....
- لا يوجد وقت ليضيع أكثر من ذلك ، فأخيرا نقول لكم من أراد أن ينجو فليعد قاربه بنفسه ويتحمل في سبيل ذلك كل ما يتعرض له ، القارب لن ينجي أحدا إنما النجاة بيد الله تعالى ولكن لابد أن يبادر طالب النجاة بالعمل ويستعن بالله ثم بمن يسرهم الله له لينجيه الله ،فالله كريم ولكنه عزيز
وبعد سويعات بدأت الرياح تشتد والأمطار تهطل بغزارة ، أسرع الوفد ورفاقهم إلى قواربهم، ونهض الجالسون على الشاطئ وركضوا خلفهم ، ولكنهم لم يجدوا في القوارب موضع قدم ،والإعصار قد وصل بالفعل ويبدو أنه لن يترك أحدا فضاعت كل آمالهم.
اختفت القوارب سريعا في الأفق
وخرج أهل البيوت ليتلقوا مع أهل الشاطئ الحيارى ،وبعفوية وسرعة كبيرة جمعوا الأخشاب والمعدات ثم وقفوا أمامها عجزة فقد ذهب من يتقن صناعة القوارب ، واختفى الأمل خلف شراع آخرهم ،،بدأ الظلام ينسدل ، الظلام الذي أحبه كثير من أهل هذه الجزيرة ولكنه هذه المرة مرعبا وفظيعا، فالرياح تشتد وصوتها أشد من زئير الأسود، والماء يعلو، أخذوا يركضون في كل جانب ، إلى أين؟ لا يعلمون
وتمضي ساعات الليل طويلة ،طويلة على أهل الجزيرة ، وطويلة وصعبة أيضا على راكبي القوارب فلم يكن الإبحار سهلا بل مليء بالمشقة بل كان البعض يسقط من القارب أحيانا لشده هياج البحر ولكن سريعا ما كانت تمتد إليه أيادي رفاقه الحانية فتلتقطه ، وأبحروا في طريقهم يصبر بعضهم بعضا ويذكر بعضهم بعضا إن هي إلا ساعات أو أيام ويصلون لبغيتهم وسعادتهم وهذا يكفي لتحويل الأشواك لزهور رقيقة.
أشرقت الشمس وقد رست القوارب ونزل الناجون مهللين فرحين متبادلين التهاني ،ثم كسا الصمت المكان.. ونظروا جميعا تجاه جزيرتهم ،يا ترى كيف انتهى الحال بأهلها ؟ يا ترى هل فرق الإعصار بين جسد العنيد وجسد الكسول المتخاذل؟يا ترى حين وقع ما وقع كم منهم صرخ وقال(يا ليتني صنعت القارب)؟! ويا ترى هل أنقذت (يا ليتني) منهم أحدا؟

هناك ٤ تعليقات:

غير معرف يقول...

من المرات النادرة التي اقرا فيها على المدونات عملا مفيداً بدلا من الشتائم وتبادل الاتهامات وخلافه، القصة جيدة لكن عابها شيئين أولهما اللخبطة في البداية بين الجزر وكان الافضل اختيار اسم لكل جزيرة على ان يكون الاسم معبر عن طبيعتها ليسهل على القارئ التعرف على كل جزيرة في خياله كما انها تجنح للتعليم المباشر بمعنى ان القارئ في نص القصة عرف نهايتها وكان الأفضل ان يعرف القارئ الهدف في النهاية عن طريق زيادة التفاصيل والحوار
لكنها ع العموم عمل جيد واتمنى الاستمرار

ياء يقول...

حتى كلمه رائعه لا تكفى

قصه فكرتنى بقصص عده فى التاريخ الانسانى

تذكرت كل انباء الله الذين ارسلهم الى الناس لكنهم كذبوهم ورفضوا اتباع الحق

تذكرت فرعون الذى رفض ان يرسل بنى اسرائيل مع سيدنا موسى بل وادعا انه الله وان له ملك مصر

قريش التى رفضت ان تؤمن برساله سيدنا محمد خوفا على مصالحها

حتى فى العصور الحديثه تجد بعض الناس لا يفيقون من غفلتهم ولا يتبعون الحق الا بعد فوات الاوان

حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِن
آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ

صدق الله العظيم ( سوره يونس) الايه 90-

معتـز عبد الرحمن يقول...

جزاكم الله خيرا على التعليق والتشجيع والتوجيه الذي أرجو أن يكون عونا لي دوما على تحسين كتابتي

sherif يقول...

تسلم ايدك يا ميزو موضوع جميل